• ×

04:38 مساءً , الخميس 23 شوال 1445 / 2 مايو 2024

خطبة الجمعة 23-05-1431هـ بعنوان من نستفتي؟

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
 
الحمدُ لله الذي نزّل الذِّكرَ وحفظه على مَرِّ الأزمانِ ، قيَّضَ له عُدولا يحمِلُونه في كلِّ عصرٍ وأوانٍ ، جعلَ لأمَّتنا منابرَ هُدى بِهم يُقتدى, نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الدَّيان ,بعثَ رسوله رحمةً وأماناً للإنس والجانِّ , ونشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه ,وصفيُّه وخليله، بلَّغ وبَشَّر , وحذَّر وأنذر , وتركنا على بيضاءَ نقيةٍ، لا يزيغ عنها إلا أهلُ الضلال والأهواء , صلى الله وسلَّم وباركَ عليه ، وعلى آله وأصحابِه أهلِ الحقِّ والعرفان ، و التابعين لهم ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ .
أمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ حَقَّ التقوى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم ، فَإِنَّ أَجسَامَكُم على النارِ لا تَقوَى.
ثم اعلَمُوا يا مؤمنون : أَنَّ مَن أَرَادَ الحَقَّ أَصَابَهُ، وَمَن طَلَبَ الصَّوَابَ وَجَدَهُ، وَمَن لَجَأَ إلى اللهِ وَفَّقَهُ اللهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرضَاهُ، قال سبحانَه: ومن يَعتَصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ .
أيُّها المسلمون، أنبلُ ما يُشتغلُ به وخيْرُ ما يُعمل لهُ نشرُ علمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ تحتاجُه الأمَّةُ، لِيهديَها من الضلالة، ويُنقذَها من الغواية، ويخرجَها مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وقد حضَّ الله على ذلك فقال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون
العلم النافع شرفٌ لأهله في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
صاحبُ العلم النافع هو الذي يعمل بعلمه ، فيكون قدوةً لغيره في القول والعمل، يقف عند حدود الله ، ويتأدَّبُ بشرعِ، ويتحلَّى بأخلاق الإسلام، فكلُّ من رآه أحبَّه واقتدى به.
صاحبُ العلمِ النافع هو الذي ينشرُ علمَه في الآفاق، فلا يكتُمَه ، فإذا ما سُئل أبانَ الحقَّ بلا ريبٍ ولا التباس وِفْقَ ما دلَّت عليه السنةُ والكتابُ . فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ ورسولُ الله قال: (( مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَجَّمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ )).
فما أعظَمَه من وعيدٍ على عالمٍ كتمَ علمه وأخفاه ! على عالمٍ يرى الباطلَ والحرامَ والمعاصي فلا ينطِقُ بالحق ! وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
عباد الله : و من أهمِّ وسائل نشرِ العلم ، التَّصدِّي للإفتاء . لعموم حاجة الناس لذلك لا سِيَّمَا حينَ قلَّ الإقبالُ على العلم، واكتفى البعضُ بالسؤال ، والإفتاء ما زال قائمًا منذ فجرِ الإسلام وحتى يومنا هذا ،
وتكتسب الفتوى أهميةً بالغةً لشرفِها العظيم ونفعها العَمِيمِ، ولكونِها المنصبَ الذي تولَّاهُ اللهُ بنفسه حيث أفتى عباده، فقال: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَاب فقد نسب الإفتاءَ إلى ذاته، وكفى بهذا المنصبِ شرفًا وجلالة. قال الإمامُ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: "وأولُ من قام به من هذه الأمةِ سيِّدُ المرسلينَ وإمامُ المتقين وخاتمُ النبيين، عبدُ الله ورسولُه، وأمينُه على وحيه، وسفيرُه بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبينِ، ثم قام بالفتوى بعده بِرَكُ الإسلام وعصابةُ الإيمان وعسكرُ القرآن وجندُ الرحمن أولئكَ أصحابُه. ألينُ الأمة قلُوبا وأعمقُها علما وأقلُّها تَكَلُّفا وأحسنُها بيانا وأصدقُها إيمانا وأعمُّها نصيحةً وأقربُها إلى الله وسيلةً".
عباد الله : ثمَّ جاء من بعدِهمُ التابعونَ وكثيرٌ من الأئمةِ المجتهدين والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم اللهُ من علم غزير وقلب مستنير ورقابةٍ لله العليم الخبير،

همُ العدولُ لِحَمْلِ العلمِ كيف وهمْ أُولو المكارمِ والأخلاقِ والشيَمِ
هم الجهـابذةُ الأعـلامُ تعرفهـم بيْن الأنام بسيمَـاهُم ووسْمِهمِ
هم ناصرو الدِّين والْحامون حوزتَه من العـدوِّ بجيـشٍ غيرِ منهزمِ

أيُّها المؤمنون ومما يُظهر منزلةَ الفتوى وخطورتَها أنْ شبَّهَهَا ابنُ القيم بالوزير الموقِّع عن المَلِك، فقال: "فإذا كان منصبُ التوقيعِ عن الملك بالمحلِّ الذي لا يُنكر فضلُه ولا يُجهل قدرُه، فكيف بمنصب التوقيعِ عن ربَّ الأرض والسماوات؟!".
لذا كان المفتي موقِّعاً عن الله فكانَ القولُ على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات؛ لما فيه من جرأةٍ وافتراءٍ على الله وإغواءٍ وإضلالٍ للناس، وهو من كبائر الإثمِ والعدوان،
قال الله تعالى: وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم
و شرع الله ليس بالأهواء: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ فالذي يفتي الناس بلا علم كاذبٌ على الله، كاذبٌ على رسول الله .
ورسولُنا يقول: ((من قال عَليَّ ما لم أقُل فليَتبوَّأ بيتًا مِن جهنّم، ومن أُفتِيَ بغيرِ علمٍ كان إثمُه علَى مَن أفتاه)) متفق عليه.
وعلى هذا المنهجِ النبويِّ تربّى السلَف الصالحون، وتواصى عليه العلماءُ الربانيون، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: (أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟!)
فاللهم أرنا الحقَّ حقاً ورزقنا إتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، رفع من شأنِ العلماءِ العاملين. فقال في كتابه المبين: { قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍّ وصدقٍ ويقين، ونشهد أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الصادقُ الأمين، القائلُ: (من يردِ الله به خيرا يفقِّهُهُ في الدِّينِ) صلى اللهُ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وإيمانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى. وأطيعوا الربَّ والمولى.
أيُّها المسلمون، إنََّ هناك أدعياءَ على العلم، نصَّبوا أنفسَهم مفتين للخلق، فهم يقولون على الله بغير علم، هذا الجنسُ من الناس ضرره عظيم، وبلية من البلايا، ورسولُنا يقول: (( إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ))
فيا أيُّها المسلمون : اعرفوا عمن تأخذون دينَكم ,فليس كلُّ مُلْتَحٍ يُستفتى , وليس كلُّ من كان صوته جميلاً في القرآن يُستفتى ، وليس كلُّ مفسِّرٍ للأحلام يستفتى، وليس كلُّ إمامٍ لمسجدٍ يُستفتى، وليس كلُّ من ظهر في الفضائيات أو الإذاعات على أنَّه شيخٌ يستفتى،
فأيها الأحبة، اعرفوا عمن تأخذون دينَكم، لا تسألوا ولا تستفتوا إلا من تواترَ عند الناس فضلُه وعلمه وسيره على المنهج الصحيح وكونه أهلاً للفتوى، لا أن نأخذَ الفتوى من كلّ من هبَّ ودبَّ.(( و أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ ))
فأنت مُطالَبٌ بالبَحثِ والتحرِّي عمّن ترَى به الأمانةَ والتقوَى والعَقلَ والتأنِّي، فأثمنُ شيءٍ لديك دينُك، وأَعظمُ بِضاعةٍ تسعى لها تحقيقُ تقوَى الربّ جلّ وعلا، وذلك لن يكونَ إلا بأخذِكَ بالعِلم الشرعيّ الصحيح. ولهذا عباد الله: لا يقع الاضطراب والتخبُّط في الفتاوى إلاَّ حين تصدُر الفتاوَى بمنأى عن مراعاةِ مقاصد الشريعة في الفتاوى، فمن الخطأ الإفتاء بالأدلة الجزئية دونَ ربطها بالكُلِّيات العامَّةِ للتشريع والمقاصد العامة للشريعة، قال الإمامُ الشاطبيُّ رحمه اللهُ: "فزلَّة العالمِ أكثرُ ما تكونُ عند الغفلةِ عن اعتبارِ مقاصدِ الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهَد فيه"
ولنعلم يا كرامُ أنَّ الواجب حملُ الناس على المعهود الوسَط، فلا يُذهَب بالناس مذهبَ الشدّة، ولا يُمال بهم إلى درجةِ الانحلالِ والرُّخَص التي تخالف صريحَ القرآن والسنة.
و يجبُ أن يُراعَى في الفتاوى النظرَ في مآلات الفتاوى، وأن يُقدِّر العالمُ عواقبَ فتواه، وما يترتَّب عليها في الحاضر والمستقبل .
ذلك عباد اللهِ: لأنَّ الفتوى السليمةَ تجعلُ المستفتي على الجادة القويمة، فلا يَزِلُّ، ولا يضل؛ في الفتوى السليمةِ صلاحُ الفرد وسلامةُ وأمنُ المجتمع، قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد .
في الفتوى القويمة السليمةِ توثيق صلة الأمةِ بعلمائها، وما أحوجنا إلى ذلك التلاحم الذي يقودُ رِكَابَه حملة أشرف رسالة. ولتبشر أمتُنا بالفوز فإن اللهَ سبحانه يقولُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم .
في الفتاوى السالمةِ من الشذوذ البعيدةِ عن التَّنطُّع حملٌ للنَّاسِ على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله .
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُون
فاللهم إنَّا نسألك الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى،
اللهم اجعلنا ممّن يعمل بالقرآن فيحّلُّ حلاله ويحرمُّ حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه.
اللهمّ اجعلنا ممّن يقيم حدودَه، ولا تجعلنا ممّن يقيم حروفَه ويضيِّع حدودَه.
اللهمّ ثبّتنا على القرآن، وأمِتنا على العمَل به وإتباع سيِّد الأنام .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين
ولا تزِغ قلوبَنا بعد إذ هدَيتنا، وهَب لنا من لدُنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا وحبيبنا محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عباد الله أذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على عموم نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
بواسطة : admincp
 0  0  2.4K
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 04:38 مساءً الخميس 23 شوال 1445 / 2 مايو 2024.