• ×

03:04 صباحًا , الخميس 1 ذو القعدة 1445 / 9 مايو 2024

خطبة الجمعة 27-03-1434هـ بعنوان الصَّبرُ عُدَّةُ المُتَّقِينَ

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
 
الحَمدُ للهِ وَعَدَ الصَّابِرينَ بِالأَجرِ من غَيرِ حِسابٍ، وَأَثَابَ الشَّاكِرِينَ على نِعَمِهِ فَنِعمَ الثَّوَابُ, نَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لهُ الحُكمُ وإليهِ المَآبُ، ونَشهدُ أنَّ مُحمدَاً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ خيرُ مَن صَبَرَ وصَابَرَ بِلا تَشَكٍّ ولا حَزَنٍ ولا اكتِئَابٍ, الَّلهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وبارِك على مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وَأصحَابِهِ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَصَابَرُواْ وَرَابَطُواْ وَٱتَّقُواْ رَبَّهم فانفَتَحَ لَهم من الخَيرِ كُلُّ بابٍ. أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا اللهَ وأَطِيعُوهُ؛فَإنَّ طَاعَتَهُ أَقوَمُ وأَقْوى،وَتَزَوَّدُوا لآخِرَتِكُم واستَعِينوا على دُنياكُم بالصَّبر والتَّقوَى, فقد قالَ اللهُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: العَبَدُ في حَيَاتِهِ مُحتَاجٌ إِلى التَّحَلِّي بِالصَّبرِ في جَوَانِبِ حَيَاتِهِ كُلِّها،فإنَّهُ لا استِقَامَةَ وَلا إِمَامَةَ, وَلا فَوزَ وَلا فَلاحَ إِلاَّ بِالتَّحَلِّي بِالصَّبرِ الجَمِيلِ، إِذْ هُوَ وَقُودٌ وَزَادٌ، وَقُوَّةٌ وَعَتَادٌ،يَحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وطَالِبُ العِلمِ مَعَ كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ، وَالدَّاعِيَةُ لا يَشُدُّ عَزمَهُ مِثلُ الصَّبرِ، والآمِرُ بالمَعرُوفِ والنَّاهي عن المُنكَرِ أعظَمُ وصِيَّةٍ لَهُ من اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَن تَجِدَ أَبًا في بَيتِهِ, وَلا مُعَلِّمًا في مَدرَسَتِهِ ولا موظفًا في مُؤَسَّسَتِهِ، وَلا خَادِمَاً ولا عَامِلاً، إِلاَّ وَهُم بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلى الصَّبرِ الجَمِيلِ.
إِنِّي رَأَيْتُ وفي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... للصَّبْرِ عاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ
وقَلَّ مَنْ جَدَّ في أَمْرٍ يُطالِبُهُ ... فاستَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ
فَلَولا الصَّبرُ لَغَرِقَ المَهمُومُ في بُحُورِ هُمُومِهِ،وَلَغَشَتِ المَحزُونَ سَحَائِبُ غُمُومِهِ.ولكِنَّ اللهَ تعالى ما أَعطَى المُؤمِنَ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ,قَالَ رَسُولُ اللهِ: (وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ)قَالَ الشَّيخُ السَّعدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:"وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ أَعظَمَ العَطَايَا؛لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أُمُورِ العَبدِ وَكَمَالاتِهِ،كُلُّ حَالَةٍ مِن أَحوَالِهِ تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ،فَإِنَّ المُؤمِنَ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتى يَقُومَ بها وَيُؤَدِّيَهَا،وَإِلى صَبرٍ عَن مَعصِيَةِ اللهِ حَتى يَترُكَهَا للهِ،وَإِلى صَبرٍ عَلَى أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ فَلا يَتَسَخَّطُهَا،بَل إِلى صَبرٍ عَلَى نِعَمِ اللهِ وَمَحبُوبَاتِ النَّفسِ،فَلا يَدَعُ النَّفسَ تَمرَحُ وَتَفرَحُ الفَرَحَ المَذمُومَ،بَل يَشتَغِلُ بِشُكرِ اللهِ،فَهُوَ في كُلِّ أَحوَالِهِ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ وَبِالصَّبرِ يَنَالُ الفَلاحَ" اهـ.
عبادَ اللهِ:وَلأَهَمِّيَّةِ الصَّبرِ وَعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ فَقَد ذَكَرَهُ اللهُ في كِتَابِهِ في تِسعِينَ مَوضِعًا،فَأَمَرَ بِهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوَا وَصَابِرُوا ،وَقَالَ: وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَجَعَلَ الإِمَامَةَ في الدِّينِ مَورُوثَةً عَنِ الصَّبرِ وَاليَقِينِ بِقَولِهِ: وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ وَحَتَّى في الخُصُوماتِ وأَخذِ الحقِّ الذي لكَ،نُدِبْتَ إِلى الصَّبرِ وَجُعِلَ هو الخَيرَ قَالَ تَعَالى: وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ .
أيُّها المُؤمِنُ:وَإِنَّ أَعظَمَ الخَيرِ في الصَّبرِ أَنَّ أَجرَهُ لا يُقَدَّرُ وَلا يُحَدُّ، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ وَإِذَا وَجَدَ المُؤمِنُونُ مَشَقَّةً وَعَنَتَاً,أَتَت مَحَبَّةُ اللهِ لِلصَّابِرِينَ,وَمَعِيَّتُهُ لَهُم لِتُخَفِّفَ عَنهُم وَطأَتَهُ وَتُهَوِّنَ عَلَيهِم صُعُوبَتَهُ، قَالَ تَعَالى: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَحِينَ يَفرَحُ أُناسٌ بمَا نَالُوهُ مِن مَتَاعٍ دُنيَوِيٍّ زَائِلٍ،أَو ِتَحقَّقَ لَهُم مَا تَمَنَّوهُ،يَأتي فَلاحُ الصَّابِرِينَ,بِأَنَّ العَاقِبَةَ الحَسَنَةَ,والفَوزَ بِالجَنَّةِ سَيَكُونُ لَهُم في الآخِرَةِ؛ لِئَلاَّ يَيأَسُوا مِن رَوحِ اللهِ,فقد قَالَ اللهُ عنهم: وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَّارِ وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ رضي اللهُ عنهم: أَلا أُرِيكَ امرَأَةً مِن أَهلِ الجَنَّةِ؟فَقُلتُ: بَلَى،قَالَ:هَذِهِ المَرأَةُ السَّودَاءُ،أَتَتِ النَّبيَّ فَقَالَت:إِنِّي أُصرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادعُ الله لي، قَالَ: ((إِنْ شِئتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ،وَإِنْ شِئتِ دَعَوتُ اللهَ أَن يُعَافِيَكِ))،فَقَالَت:أَصبِرُ،فَادعُ اللهَ لي أَن لاَّ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا!
وَأمَّا حِينَ يَكبُرُ مَكرُ الأَعدَاءِ وَيَعظُمُ كَيدُهُم وَيَشتَدُّ أَذَاهُم،فَإِنَّ الصَّبرَ وَالتَّقوَى هُمَا خَيرُ عِلاجٍ وَأَنجَعُ وَسِيلَةٍ لإِبطَالِ كَيدِهِم وَإِخمَادِ عَدَاوَتِهِم،قَالَ تَعَالى: وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بما يَعمَلُونَ مُحِيطٌ فلا تَظُنُّوا يا مؤمِنُونَ أنَّ إخوانَنا في الشَّامِ وفِلَسطِينَ وهم صابِرونَ ومُرَابِطُونَ ومُجَاهِدونَ أنَّ اللهَ سَيَخذُلُهم كلاَّ ورَبِّي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
أيُّها المؤمنونَ باللهِ ورَسُولِهِ: وكَمَا امتَدَحَ اللهُ الصَّبرَ في كِتَابِهِ,فَقَد زَخُرَتَ سُنَّةُ النَّبِيِّ وسِيرَتُهُ قولاً وَعَمَلاً,كَفَاكَ أيُّها المُسلِمُ أَنْ تَسمَعَ طَرَفَاً منها لِتَشتَاقَ نَفْسُكَ أَنْ تَكُونَ مِن العِليَةِ الأَخيَارِ،الحَائِزِينَ عَلَى الصَّبرِ والمَدحِ والنَّوالِ،قَالَ: (الصَّبرُ ضِيَاءٌ)وقالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:إِذَا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ فَصَبَرَ عَوَّضتُهُ مِنهُمَا الجَنَّةَ)وقَالَ: (يَقُولُ اللهُ تَعَالى:مَا لِعَبدِي المُؤمِنِ عِندِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضتُ صَفِيَّهُ مِن أَهلِ الدُّنيَا ثُمَّ احتَسَبَهُ إِلاَّ الجَنَّةُ)وَفي المُسنَدِ وغيرِهِ أَنَّهُ قَالَ: (وَاعلَمْ أَنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا،وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ،وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ،وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا) وَقَالَ): المُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم).
هكذا أَيُّهَا المُسلِمُونَ،يَظَلُّ الصَّبرُ سِرَاجًا لَنا في دُرُوبِ الحَيَاةِ،وَنُورًا في ظُلُمَاتِ الفِتَنِ،وَرَفيقًا في غُربَةِ الزَّمَنِ،حَتَّى إِذَا وَصَلَت الفِتَنُ أوجَها في مِثلِ عَصرِنا،من شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ،وتَسَلُّطٍ من الأَعدَاءِ وَضَعفٍ من الصَّالِحِينَ والفُقَهَاءِ!فلا عِلاجَ أَنْجَعُ من صَبرٍ جَميلٍ مَعَ إِحسَانٍ في العَمَلِ،قَالَ: (إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ،لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بما أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم) قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ،أَو مِنهُم؟قَالَ: (بَلْ مِنكُم) صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يا مُسلِمُونَ،وَاصبِرُوا، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ وَمَن لم يَكُن مَجبُولاً عَلَى الصَّبرِ ومُعتَادَاً لَهُ,فَلْيَتَصبَّرْ وَليُجَاهِدْ نَفسَهُ عَلَيهِ،قَالَ: (إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ،وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ،وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ،وَمَن يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ)وَقَالَ: (وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ).جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدُها صَفْواً مِنَ الأَقذَارِ والأَكْدَارِ؟ هذا واللهِ مُحَالٌ !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالعَصرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيمِ،ونفَعني وإيّاَكم بِهدِيِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ،وأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم,فَاستَغفِرُوهُ،إنَّه هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ،نَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبينُ،ونَشهَدُ أنَّ نَبيَّنا مُحمدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ،اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عليهِ وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ والتَّابعينَ لَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ والتَزِمُوا أمرَهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:ذَكَرَ العُلمَاءُ أنَّ الصَّبرَ هو: حَبْسُ النَّفسِ على الطَّاعَةِ وَكَفُّها عن المَعصِيَةِ والدَّوامُ على ذَلِكَ.فالمُسلِمُ يَحبِسُ نَفسَهُ عن التَّسَخُّطِ بالمَقدُورِ، ويَحبِسُ لِسَانَهُ عن التَّشَكِّي، وَيَحبِسُ جَوَارِحَهُ عن الوُقُوعِ في المَعَاصي كالَطمِ الخُدُودِ وشَقِّ الثَّوبِ ونَتْفِ الشَّعْر ونحوِ ذلكَ.وقَسَّموا الصَّبرَ,إلى أَقسَامٍ ثَلاثَةٍ:صَبْرٌ على طَاعَةِ اللهِ،وَصَبْرٌ عن مَعصِيَةِ اللهِ،وثالِثُها الصَّبرُ على أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ. فالنَّوعُ الأَوَّلُ: أَعظَمُها لأنَّ العِبَادَاتِ شَاقَّةٌ على النُّفُوسِ؛ وتَحتاجُ إلى مُصابَرَةٍ ومُجَاهَدَةٍ !فالصلاةُ والصِّيامُ, والحَجُّ والزَّكَاةُ,والأمرُ والنَّهيُ,كُلُّها تحتاجُ إلى الصَّبرِ, قَالَ اللهُ تَعَالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
والقِسمُ الثَّانِي: الصَّبرُ عن الوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ تَعالى،وَذَلِكَ بِكَفِّ النَّفسِ عن أنْ تَفعَلَ مُحَرَّمَاً أو تُقَصِّرَ في واجبٍ. عبادَ اللهِ: وآفَةُ المُنكراتِ في هذا الزَّمنِ, أنْ سَهُلَ الوُصُولُ الحرامِ فكانَ أقرَبَ إلى أحدِنا من يَدِهِ لِعينِيهِ! فالقَنواتُ والشَّبكاتُ والأجهِزَةُ الذَّكِيَّةُ, إنْ لَمْ نَصبِرِ عن الحرامِ الذي فيها,أوردتنا المهالكَ والمَضآرَّ! ذالِكَ أنَّ النَّفسَ مَيَّالَةٌ إلى الآثامِ، تَوَّاقَةٌ إلى الشَّهوَاتِ، فإنْ لم نُلجِمهَا بِتَقوى اللهِ والصَّبرِ عن مَعَاصِيهِ, تَلَطَّخنا بِالأَوزَارِ! وأعظَمُ عِلاجٍ قَولُ اللهِ في مُحكَمِ التَّنزِيلِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
فَعَاقِبَةُ الصَّـبرِ الجَمِيلِ جَمِيلةٌ وأَحسَنُ أَخلاقِ الرِّجَالِ التَّحَفُظُ
وأَمَّا القِسمُ الثَّالِثُ: فَهُو صَبرٌ على أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ وعلى مَصَائِبِ الحَيَاةِ المُتَنَوِّعَةِ، فمن من البشَرِ من سَلِمَ من ذالِكَ؟ُ مَن منَّا من لَم يُصبْ بِمَرَضٍ؟ مَنْ مِن البشَرِ من لم يفقدْ مالاً ؟ أو قريباً أو عزيزاً؟
ولهذا قالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فهذهِ سُنَّةُ اللهِ في عِبَادِهِ؛ وهي ابتِلاؤُهُم بِشَيءٍ من الخَوفِ، ولَم يَقُل:بِالخَوف كُلِّهِ؛لأنَّهُ لو قَالَ: بالخَوفِ لأَهلَكَهُم؛ وإنَّمَا يَبتَلِيَهم لأنَّ مَقصُودَهُ تَعَالَى تَمْحِيصُهُم وتَطهِيرُهُم من ذُنُوبِهم ومَعَاصِيهِمْ. فَتَلَفُ الأَموَالِ, ومَوتُ الأَحبَابِ, وألمُ المَرضِ, نَقصٌ يحتاجُ إلى صَبرٍ ومُصَابَرَةٍ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ!ونَحنُ عندَ المَصَائِبِ قِسمَانِ: قِسمٌ جَازِعٌ سَاخِطٌ مُهلِكٌ نفسَهُ بالأَسى والحَسرَةِ، فهو قد جَمَعَ على نَفسِهِ مُصِيبَتَينِ, فَواتَ المَحبُوبِ، وَفَواتَ الأَجرِ العَظِيمِ الذي رَتَّبَهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ!وقِسمٌ راضٍ بقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ,فَهؤلاءِ بَشِّرهم بِبِشَارَةِ اللهِ لهم وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فَلَهُم أَجْرٌ غَيرُ مَعدُدٍ ولا مُقَدَّرٍ؛ جَزاءً لَهم على عَظِيمَ ما صَبَروُا وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلونَ.لأنَّهم : قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ فَنَحنُ مَمْلُوكُونَ لِلَّه، مُدَبَّرُونَ تحت عَوْنِهِ وتَصَرُّفَاتِهِ؛ فَكانَ جَزاؤهم أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فهم الْمُوَفَّقُون لِلْحَقِّ والرَّحمَةِ!ولهذا عَجِبَ رَسُولُ اللهِ من حالِ المُؤمِنِ فَقَالَ: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحْدٍ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ). ولا يعنِي ذالِكَ أنْ يكونَ الإنسانُ فاقِدُ الرَّحمَةِ والأحاسيسِ, كلا فَتِلكَ رَحمَةٌ في قُلُوبِ العِبادِ, ولكن بدونِ تَسَخُّطٍ ولا عويلٍ ولا اعتراضٍ على قَدَرِ اللهِ تعالى! فِي الصَّحِيحَينِ: أنَّ النَّبِيَّ لَمَّا دَخَلَ عَلَى ابنِهِ إِبرَاهِيمَ وَهُوَ في سَكَرَاتِ المَوتِ،جَعَلَت عَينَاهُ تَذرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: وَأَنتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ النَّبيُّ: (إِنَّ العَينَ تَدمَعُ وَالقَلبَ يَحزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبرَاهِيمُ لَمَحزُونُونَ) فَقَالَ لَهُ سَعدٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يَا رَسُولَ اللهِ،مَا هَذَا؟! فَقَالَ: ((هَذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ).
اصبر لِكُلِّ مُصيبةٍ وَتَجَلَّدِ ... واعلم بِأنَّ المرءَ غَيرُ مُخَلَّدِ
أو مَا تَرى أنَّ المَصَائِبَ جَمَّةٌ ... وَتَرى المَنِيَّةَ لِلعِبَادِ بِمَرصَدِ
مَن لَم يُصب مِمَّن تَرى بِمُصيبةٍ؟ ... هَذا قَبِيلٌ لَستَ فِيهِ بِأوحَدِ
وإذا أَتتكَ مُصيبَةٌ تَشجَي بِها ... فَاذكُر مُصابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحمَّدِ
اللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ, آمنَّا باللهِ وتَوكَّلنا عليه.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ اللهمَّ اشفِ مَرضَانَا, وعَافِ مُبتَلانا، وارحم مَوتانا, وفُكَّ أسرانَا, واهدِ ضَالَّنا, ورُدَّ غَائِبَنا, وارزقنا حُسنَ القولِ والعَمَلِ, اللهم اجعلنا مُقيمي الصَّلاةِ ومن ذُرِّياتِنَا رَبَّنا وَتَقَبَّل دُعاءَ, اللهمَّ ثَبِّتنا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويَومَ يقومُ الأشهادُ. اللهم آمنَّا في أوطانِنِا، وأَصلِح ووفِّق أَئِمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، خُذ بِنَواصِيهم لِلبرِّ والتَّقوى, وأصلح لهم البِطَانَةِ. اللهم أَصلِح حَالَنا وأَحسِن مآلنا، وارزقنا قُلوباً خَاشِعَةً مؤمِنَةً مُوقِنةً، ياربَّ العالمينَ.
عباد الله: اذكروا الله العلي العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
بواسطة : admincp
 0  0  41.7K
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 03:04 صباحًا الخميس 1 ذو القعدة 1445 / 9 مايو 2024.