• ×

02:25 مساءً , الأربعاء 29 شوال 1445 / 8 مايو 2024

خطبة الجمعة 10-09-1434هـ بعنوان سورةُ البَرَكَةِ

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
 
الحمدُ للهِ مَنَّ عَلَينَا بِإدرَاكِ الصِّيامِ والقِياَمِ،أَنزَلَ علينا القُرآنَ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ،نَشهدُ أن لا إله إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ عَظيمُ الجَلالِ والشَّأنِ،ونَشهدُ أنَّ نَبِيَّنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ بَعثه اللهُ رحمةً وأماناً للإنس والجآنِّ،اللهمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك عليه،وعلى آله وأصحابِهِ أولي الفَضلِ والتُّقى والإيمانِ,ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ يقولُ اللهُ تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ.
فيا صائمونَ:التَزِمُوا تَقوى اللهِ سِرَّا وعلانَا,ثُمَّ اعلمُوا أنَّ الصِّيامَ والقُرآنَ مُتلازِمَانِ اعتِقَادَا وَقولاً وعمَلاً. الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. إي واللهِ إنَّهُ لَهُدىً وَمَوعِظَةً وتُقىً. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. أَنزَلَ فيهِ أَحسَنَ القَصَصِ،وأَصدَقَ القَصَصِ,وأنفَعَ القَصَصِ,قصَصٌ رَبَّانيٌّ وكلامٌ إلهيٌّ دُونَ شَكٍّ فِيهِ ولا ارتِيابٍ: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ. ثًمَّ اعلمُوا يا رَعاكمُ اللهُ:أنَّ مَن تَتَبَّعَ قَصَصَ القرآنِ وتَأَمَّلَها,عادَت عليه بِثَروةٍ طَائِلَةٍ من العِظاتِ والعِبَرِ،وزَادتُه مَعرِفَةً بِرَبِّهِ,وَيَقِينًا بِعظِيمِ عِلمِهِ وحِكمَتِهِ وقُدرَتِهِ ! فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ولنَتَأَمَّلْ قِصَّةً في سُورَةٍ من أعظَمِ سُوَرِ القُرآنِ مَكَانَةً! كيفَ لا تكونُ كذلِكَ وهِيَ سُورَةُ الخَيرِ والبَرَكَةِ,وسُورَةُ الحِصنِ مِن الشَّيطَانِ والسَّحَرَةِ قال عنها النَّبِيُّ : « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ».يعني السَّحَرَةُ.وعن النَوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ يَقُولُ:
«يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ». وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ -يعني جَمَاعتَانِ- مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا ». وفيه أيضًا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: « لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ». الأحادِيثُ رواها الإمامُ مُسلِمٌ, كفى هذِهِ السُّورَةَ شَرَفاً أنْ ضَمَّت أَعظَمَ آيةٍ في القُرآنِ الكَرِيمِ!وأمَّا خَوَاتِيمُها فَقد كانت بُشرَى لِرَسُولِنا !فَلنَتَأَمَّل ياصائِمونَ:قِصَّةَ بَنِي إِسرَائِيلَ مَع مُوسى عليهِ السَّلامُ من خِلالِ قِصَّةِ البَقَرَةِ, وكيفَ أظهَرَت قِلَّةَ تَوقِيرِهِم لِنَبِيِّهم وإعنَاتِهم في المَسأَلَةِ وشِدَّةِ إِلحَاحِهم وَتَهَرُّبِهم من الامتِثَالِ لأمْرِ رَبِّهم!وبُعدِ أَفهَامِهِم عن مَقصَدِ رَبِّهم.
أعوذُ باللهِ من الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. إلى قولِهِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. لقد أَمَرَهُم اللهُ بالذَّبْحِ قبلَ أنْ يَعرِفُوا السَّبَبَ,ولِهذا الأمرِ بالذَّبْحِ سَبَبٌ وقِصَّةٌ!ذَكَرَ ابنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ:أنَّ سَبَبَ القَتْلِ,أنَّ المَقتُولَ كانَ تاجِراً وكانت لَهُ ابنَةٌ حَسنَاءُ أحَبَّ ابنُ عَمِّها أنْ يَتَزَوَّجَها فَمَنَعَهُ عَمُّهُ منها،فَغَضِبَ الفَتَى وقَالَ:واللهِ لأَقتُلَنَّ عمي،ولآخُذَنَّ مَالَهُ،ولأَنْكِحَنَّ ابنَتَهُ،فَقَتَلَهُ وَحَمَلَهُ مِن قَريَتِهِ إلى قَريَةٍ أُخرى فَألقَاهُ بَينَ قَرْيَتَينِ.وادَّعى أنَّ الذي قَتَلَهُ بعضُ الأَسبَاطِ التُّجَّارِ!فَتَخَاصَمُوا وتَنَازَعُوا مَنْ قَتَلَهُ؟.ثُمَّ أَتوا مُوسى عليهِ السَّلامُ يَخْتَصِمُونَ إليهِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قَالُوا:نَسأَلُكَ عن القَتِيلِ وَعَمَّنْ قَتَلَهُ، وتَقولُ: اذبَحُوا بَقَرَةً! أَتَهْزَأُ بِنَا ؟ قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. عبادَ اللهِ: ما الحِكمَةُ مِن ذَبْحِ البَقَرَةِ ؟ ومَا مَوقِفُ اليَهُودِ مِنْ أَمْرِ اللهِ لَهم ؟. الحِكمَةُ أيُّها المؤمنونَ واللهُ أعلَمُ:لِتَعبِيدِ النَّاسِ لِرَبِّ العالَمينَ!وهذا مِن عَظَمَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ أنْ يَجعَلَ المُؤمِنَ يَتَلَقَّى أَمْرَ اللهِ طَائِعَاً مُسَلِّماً رَاضِياً,عَرفْتَ العِلَّةَ أمْ لَم تَعرِفْ!ولِهذا موسى عليهِ السَّلامُ صَدَّرَ الأَمرَ مِن اللهِ؛وَلَم يَقُل: آمُرُكُم، ولا قال: اذْبَحُوا؛بَلْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. لِيَكُونَ أَعظَمَ وَقْعَاً في نُفُوسِهِم،وأَدْعَى لِقَبُولِهِ،لو كانوا يَعقِلونَ!وَلَم يُعيِّن لِلبَقَرَةِ وَصفَاً؛ولا سِنِّاً,ولا لَوناً,قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما:لو اعتَرَضُوا وأَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لأَجْزَأَتْ عنهم، ولكنَّهم شَدَّدُوا على أنفُسِهم وَتَعَنَّتُوا فَشَدَّدَ اللهُ علَيهم!,
فَماذَا كانَ جَوابُ بني إسرائِيلَ لِنَبِيِّهم؟قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا لقد كانَ جَوابُهم فيهِ سَفَاهَةٌ وسُوءُ أَدَبٍ مع نَبِيِّ اللهِ،ومعَ أوامِرِ اللهِ تعالى!وفيهِ اتِّهامٌ لِنَبِيِّهمُ الكَرِيمُ أنَّهُ يَهزَاُ ويَسخَرُ بِشَرْعِ اللهِ! وهذا بَعيدٌ عن أيِّ مُسلِمٍ فَضْلاً عن رُسُلِ اللهِ وأنبِيائِهِ واللهُ تعالى يقولُ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فيا ويلَ مَنْ يَجعَلُونَ شَرعَ اللهِ أو أوليائَهُ ودُعاتَهُ مادَّةً إعلامِيَّةً لِلهُزأِ والسُّخرِيَةِ حَسَداً من عندِ أنفُسِهم,فما أشبَهَ فِعلَهمِ بالمُنافِقينَ الذينَ سَخِروا من صحابَةِ رَسُولِ الله حينَ وَصَفُوهم فَقَالوا:ما رَأَينَا مِثلَ قُرَّائِنَا هؤلاءِ،أَرغبَ بُطُوناً،ولا أَكذَبَ ألسُنَاً،ولا أجبنَ عندَ الِّلقَاءِ!فأنزَلَ اللهُ قَولَهُ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
أيُّها المُسلِمونَ:هُنا عَرَفَ مُوسى عليهِ السَّلامُ أنَّ هؤلاءِ اليَهُودَ جَاهِلُونَ بِرَبِّهم وَبِرَسُولِهم وجَاهِلُونَ بِآخِرَتِهم,وأَنَّهم مُعانِدونَ يُحَاوِلُونَ أنْ يَأخُذُوا كُلَّ شَيءٍ بِمِقياسِ العقلِ البَشَرِيِّ المَحدودِ!فاستَعَاذَ بِاللهِ مِن فِعلِهم وقالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَأعتَصِمُ باللهِ أنْ أكونَ مِن أُولي الجَهلِ,فَإنَّ الجَاهِلَ هو الذي يَتَكَلَّمُ بِمَا لا فَائِدَةَ فيه، وَيَستَهزِئُ بالنَّاسِ،وأَمَّا العَاقِلُ فَيَرَى أنَّ مِنْ أَكبَرِ العُيوبِ استِهزَاءُه بِمن هُو آدَمِيٌّ مِثلُهُ،وإنْ كانَ قد فُضِّلَ عليهِ،فَتَفضِيلُهُ عليهِ يَقتَضِي مِنْهُ الشُّكرَ لِرَبِّهِ،والرَّحمَةَ لِعِبَادِهِ.فَلَمَّا قالَ لَهم مُوسى ذَلِكَ،عَلِموا أنَّهُ صادِقٌ فيما طَلَبَ وقد وكانَ هذا كَافِيا لِيَثُوبُوا إلى أَنفُسِهم،وَيَرْجِعوا إلى رَبِّهم، ويُنَفِّذُوا أَمْرَ نَبِيِّهم,وَلَكِنَّهُم اليَهودُ وَكَفى!أهلُ التَّلَكُّؤِ والالتِواءِ والتَّرَدُّدِ!فماذا طَلَبوا؟ومتى نَفَذُّوا؟وما الذي حَدَثَ؟ نَعرِفُ ذالِكَ بإذنِ اللهِ تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. أقولُ ما تسمعونَ واستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسائِرِ المُسلِمينَ من كُلِّ ذَنبٍّ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفور الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله جعلَ كِتَابَهُ لِكُلِّ خيرٍ هاديًا،وعمَّا سِواهُ كَافِياً،نَشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شَريكَ لَه المَلِكُ الوَهَّابُ،ونَشهدُ أنَّ سيِّدَنَا مُحمَّدَاً عبدُ الله وَرَسُولُهُ،بَعثَهُ اللهُ بَخيرِ دِينٍ وأَصدَقِ كِتَابٍ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليهِ،وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الحِسَابِ. أمَّا بعدُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. عبادَ اللهِ:قِصَّةُ البَقَرَةِ تَعرِضُ طَبِيعَةَ بَنِي إِسرَائِيلَ, وهمُ اليَهَودُ أتباعُ مُوسى عليهِ السَّلامُ,وكيفَ كانت جِبِلَّتُهم وطِبَاعُهم!فَلَمَّا عَرَفوا صِدقَ نَبِيِّهم بَدَؤوا بالتَّعَنُّتِ والتَّلَكُّؤِ والالتِواءِ فَقَالُوا لِموسى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ.تَأَمَّل كيفَ نَقْصُ الإِيمَانِ عِندَهم!لَم يَقُولُوا ادعُ لَنَا رَبَّنا!وكَأَنَّه رَبُّ مُوسى وَحدَهُ!وهذا من الجَفَاءِ وقِلَّةِ الأدَبِ مَعَ الرَّبِّ!وإلاَّ فالبَقَرَةُ مَعلُومَةٌ!وَلَكِنَّهم سَأَلُوا عن سِنِّها؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ ليست كَبِيرَةً وَلا بِكْرٌ ولا صَغِيرَةً عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَسَطٌ بينَ هذهِ الأَوصَافِ كُلِّها فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ كَفَاكٌم مُجادَلَةً نَفِذُّوا أَمْرَ اللهِ واذْبَحُوا البَقَرَةَ واترُكُوا التَّشدُّدَ والتَّعَنُّتَ. وَمَعَ ذَلِكَ. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا وقد غيَّروا صِيغَةَ السُّؤَالِ هَلْ هيَ بَيضَاءُ؛أو سَودَاءُ؛أو حَمْرَاءُ, قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيهم فِي الَّلونِ!فَأَخْرَجَ كُلَّ الألوانِ مَا عَدا الصَّفْرَاءِ.وهذا نَوعُ تَضيِيقٍ؛ثُمَّ لَونُها فَاقِعٌ شَدِيدُ الصُّفَرَةِ تَسُرُّ كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِليها؛فَصَارَ التَّضيِيقُ عليهم مِن ثَلاثَةِ أَوجُهٍ! قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ وهذا تَعَنُّتٌ ثَالِثٌ!ما عَمَلُها إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا. فهيَ غَيرُ مُذَلَّلة بالعمل،فَلم تُستَخدَمَ في حِرَاثَةِ الأَرضِ,ولم يُسنَ عليها،قد سَلِمَت مِن كُلِّ العُيُوبِ! قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . وهذا مِن جَهلِهم،وإلاَّ فقد جاءَهم بِالحَقِّ مِن أوَّلِ مَرَّةٍ، ولو لَم يَقُولوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. لم يَجِدوها أبدا! فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ذَبَحُوا البَقَرَةَ على كُرْهٍ وتَبَاطُؤٍ مِنهُم؛فماذا حَدَثَ؟ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. الآنَ كَشَفَ اللهُ لهم عن الحِكمَةِ من ذَبْحِها!فَقد أَرادَ اللهُ أنْ يُظهِرَ الحَقَّ على لِسَانِ القَتِيلِ ذَاتِهِ؛وكانَ ذَبْحُ البَقَرَةِ وَسِيلَةً إلى إحيائِهِ،وذَلِكَ بِضَرْبِ المَقتُولِ بِعُضوٍ مِن البَقَرَةِ فَعَادَت إليهِ الحَيَاةُ،وأَنطَقَهُ اللهُ أمامَ القومِ وأخبَرَ عن قَاتِلِهِ!فَحَصْحَصَ الحَقُّ وظَهَرَ أمرُ اللهِ!وَجَعَلَ اللهُ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِعَظِيمِ قُدرَتِهِ على البَعثِ والإحياءِ والإماتةِ! كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون.
أيُّها المُؤمنونَ الصَّائِمونَ:وإليكم دُرُوسَاً وعِبَراً,فَمنها:وجوبُ تَعظِيمِ الخالِقِ القَادِرِ على الإِحيَاءِ والإِمَاتَةِ,والإيمانُ التَّامُّ بِعَظِيمِ قُدرَتِهِ,فَبِمُجَرَّدِ العَقْلِ لا تُوجَدُ رَابِطَةٌ بَينَ ذَبْحِ البَقَرَةِ وبينَ القَتِيلِ، ولَكِنَّها إرادَةُ اللهِ وقُدرَتُهُ وحِكمَتُهُ,ويتَّضِحُ من القِصَّةِ: ضَعفُ العقلِ البَشَريِّ وأنَّهُ لا يُمكِنُ أنْ يُحيطَ بكُلِّ شيءٍ حِكمةً وعِلماً,فَوَجَبَ على المُسلِمِ التَّسلِيمُ لأوامِرِ اللهِ ونَواهِيهِ وشَرعِهِ وحُكمِهِ,فَعندَ أَوامِرَ اللهِ ورَسُولِهِ تَقُولُ سَمِعنَا وأَطَعنَا!وعندَ أَخبَارِ اللهِ ورَسُولِهِ تَقُولُ سَمِعنَا وآمَنَّا, وسُبحانَ اللهِ:أذنابُ بني إسرائِيلَ لا يزالُونَ في عصرِنا ومن بَنِي جِلدَتِنا!ممَّن قَدَّموا عُقُولَهم على ما ثَبَتَ في صحِيحِ السُّنَّةِ فأنكَرُوها واستَخَفُّوا بها ففي البخاريِّ وغيرهِ عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ :«إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً والأُخْرَى شِفَاءً». وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا. مِن القِصَّةِ نأخُذُ:خُطُورَةُ التَّشدِيدِ على النَّفسِ في العِباداتِ أو المُعاملاتِ فَدِينُ اللهِ قائمٌ على اليُسرِ والسُّهولَةِ وقد قالَ نَبيُّنا: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ،وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا،وَأَبْشِرُوا،وَيَسِّرُوا،وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ،وَشَيْءٍ مِنَ الدَّلْجَةِ».القِصَّةُ تُحذِّرُ المُسلِمَ مِن أنْ يَكتُمَ شَيئَاً لا يَرضَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ؛فَإِنَّكَ مَهمَا كَتَمْتَ فَإِنَّ اللهَ مُطلِعٌ خَلقَهُ عَليهِ,إلاَّ أنْ يَعفُوَ اللهُ عنكَ,فكيفَ تَستخفونَ من النَّاسِ ولا تَستخفونَ من اللهِ؟! وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا.
فاللهمَّ أملئ قُلُوبَنا بِحُبِّكَ وتَعظِيمِكَ وتَعظِيمِ شَرعِكَ وَهَديِ نبِيِّكَ. اللهمَّ انفعنا وارفعنا بالقُرآنِ الكريمِ,وارزقنا تِلاوتَهُ على الذي يرضيكَ عنَّا أناء الليلِ وأطرافَ النَّهارِ,واجعلهُ حُجَّةً لنا لا علينا,اللهمَّ أعنَّا على صيامِ رَمضانَ وقيامهِ إيمانَاً واحتِساباً,واغفر لنا ولِوالِدينا وجميعَ المُسلِمينَ, رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
بواسطة : admincp
 0  0  2.8K
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 02:25 مساءً الأربعاء 29 شوال 1445 / 8 مايو 2024.