• ×

12:33 مساءً , السبت 10 ذو القعدة 1445 / 18 مايو 2024

خطبة الجمعة 01-07-1432هـ بعنوان سيرةُ بطل مصعبُ بن عمير

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
 
الحمد للهِ عزَّ واقتَدَر، لا مَحيدَ عنه ولا مفرَّ، نحمده سبحانَه ونشكُره وقد تأذَّن بالزيادةِ لمن شكرَ، نشهدُ أن لا إلهَ إلاِّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تنجِي قائلَها يومَ العرضِ الأكبر، ونشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنَا محمَدًا عبدُ الله ورسولُه سيِّدُ البشر الشافعُ الْمُشَفَّعُ في المحشر، صلَّى الله وسلَّم وبَارَك عليه وعلى آلِه الدُّرر، وأصحابِه الغُرَر، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم المستقر .
أمَّا بعدُ: أيُّها الناسُ,اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخُ في الصور، ويُبعث من في القبور، ويَظْهَرُ المستورُ، يوم تُبلى السرائرُ وتُكشفُ الضمائرُ ويتميَّزُ البَرُّ من الفاجرِ.
عباد الله:عندما يستقرُّ الإيمانُ في القلوبِ وترسَخُ العقيدةُ في النفوسِ فإنَّها تصوغُ رجالَها صياغةً فذَّة، وتجعلهم في أماكنَ عليَّةٍ !
ولقد كان صحابةُ رسولِ الله خيرَ نموذجٍ على ذلك كيف لا يكونون كذلكَ وقد قال المولى عنهم: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً فقد حملوا لواءَ الدَّعوةِ بكلِّ إخلاصٍ وأمانةٍ،وابتُلُوا بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ ،فما زادهم إلا إيماناً وتسليماً, وثباتاً ويقيناً !؟
ولنقفِ اليومَ وقفةَ إكبارٍ وإجلالٍ على سيرةِ فتىً من فتيان قريشٍ وأحسنِهم بهاءً وشباباً، كان ذلك الْمُرَفَّهُ يلبسُ أغلى الثِّيابِ، ويتعطَّر بأفخرِ الأطيابِ. ولد في النِّعمةِ، وغذِّيَ بها، ولم يكن بينَ فتيانِ مكةَ مَنْ دلَّلَهُ أبواه مِثْلَهُ، تُحدِّثنا عنه مكةُ وطُرقاتُها وفتيانُها وفتياتُها الذين طالما تمنَّوا عيشَه، فَأُمُّه كانت ثَرِيَّةً قويةً لا يعصى لها أمرٌ، ومع هذه النعم التي يتقلَّبُ فيها إلا أنَّهُ يجدُ خَواءً وفراغاً في قلبه لم تُلَبِّهِ تلكَ النِّعمُ والملذاتُ ! فصار يبحثُ عن السعادةِ التي كانت بالقربِ منه؟! فإذا هو يسمعُ أنَّ أهلَ مكةَ غاضبونَ على محمدٍ ، الذي يقولُ : أنَّ اللهَ أرسَلَهُ بشيراً ونذيراً، وأنَّ لهم اجتماعاً هناك على الصفا في دارِ الأرقمِ بنِ أبي الأرقمِ بعيدا عن قريشٍ!فَقَدِمَ صاحِبُنا إلى النبيِّ مُستخفيَاً وجِلاً ،فاسْتَمَعَ إلى رَسولِ اللهِ وهو يغسلُ عن الأرضِ كفرَهَا وشِرْكَهَا بآياتِ القرآن ودعوةِ الحقِّ ! فما كان منه إلا أن أسْلَمَ وكَتَمَ إسلامه، فصار يتردَّدُ على رسولِ الله سِرَّا!حتى بَصُرَ بِصاحبنا رجلٌ وهو يصلي فطارَ بالخبرِ إلى أمِّه، فوقفَ صاحِبُنا أمامَ أمِّهِ وعشيرتِهِ يتلو عليهمُ القرآنَ ! فَأَسْكَتَتْهُ ومَنَعَتهُ فامْتَنَعَ،فلم يكن صاحِبُنا يُحاذرُ أحداً على وجه الأرضِ سوى أمِّه !فما كان منها إلا أن حبسته وأوثقته في بيتها، وحلفت عليهِ أن لا تأكلَ ولا تشربَ ولا تستظلَ حتى يرجعَ عن دينه الجديد، فلم يغيِّر ذلك من حالِه شيئاَ، وصبر على الشِّدة والبلاء حتى تغيَّر لونُه وضَعُفَ جسمُه، فتلاشت عنه النعمةُ الوارفةُ! وأصبح الْمُعطَّرُ المدلَّلُ ,يأكلُ يوماً ويجوع أياماً. ويلبسُ المُرقَّعَ !فلم يزل كذلك حتى فرَّ بدينِهِ إلى الحبشة مع النَّفر القلائلِ الأُولِ، فأدركَ فضلَ الهجرةِ الأولى في الإسلام ,ذلكم الفذُّ البطلُ , الفدائيُ التَّقيُ, الزَّاهدُ النَّقيُّ , معلمُ الناسِ الخيرَ ,مصعبُ بنُ عميرٍ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ، ممن صاغَهُمُ الإسلامُ وربَّاهم محمدٌ خيرُ الأنام .وهذه أوَّلُ سماتِ مُصعَبِ بنِ عميرٍ ,الثَّباتُ المبدأِ، والتمسُّكُ بالعقيدةِ ! فهل كان أحدٌ يَتَصَوَّرُ أنَّ الفتى المُدَلَّلَ سيصبرُ على الحبسِ والحرمانِ والفقرِ ؟ إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ ! ثمَّ تأمَّل ثباتَه حينَ لِقائهِ بِأمِّهِ بعد رجوعه من الحبشةِ قالت له: اذهب لشأنك لم أعُدْ لك أمَّا ! فقال: يا أمَّه إنِّي لكِ ناصحٌ، وعليك شَفُوقٌ فَاَسْلِمي,فأبت!إصرارٌ على الكفر من الأمِّ وإصرارٌ أكبرُ على الإيمانِ من الابن !
أقبَلَ مُصعبٌ يوماً على النَّبِيِّ وهو جالسٌ في أصحابِه، وقد ارتدى ثوباً مُرَقَّعَاً بَالِيَاً ، فبكى رسولُ اللهِ وأصحابُهُ, وَنَكَّسَوا رؤوسَهم ما عندَّهم ما يعطونه من الثِّيابِ ، فَسَلَّم، فردَّ النَّبِيُّ عليه، وأحسنَ الثَّنَاءَ عليه ، ثُمَّ قال : ( الحمدُ لله الذي يُقلِّبُ الدُّنيا بِأَهلِها، لقد رأَيتُ مُصعَبَاً هذا وما بِمَكَةَ فَتىً أَنْعَمَ عِندَ أَبَويهِ مِنْه، ثُمَّ تَرَكَ ذلكَ كُلَّهُ حُبَّا للهِ ولِرَسولِهِ ).
عباد الله: هذا الثَّباتُ والتُّقى والزُّهدُ والنَّقا , جعلتِ النَّبِيَّ يَختارُه لأَنْ يكونَ أوَّلَ سفيرٍ في الإسلام فبعثَ بهِ إلى المدينة النبويَّةِ، لِيدعُوهم إلى الإسلام ويُقْرِئَهُم القُرآنَ فكانَ معلمًا وإمَامَاً لدار الهجرة ومُنطَلَقِ الدَّعوةِ.
حَمَلَ مُصعبٌ الأمانةَ مُستعينَاً بالله،وبما وَهَبَهُ اللهُ من عقلٍ راجحٍ وخُلُقٍ كريمٍ إخلاصٍ صادقٍ، فأسلمتِ المدينةُ كُلُّها سادةً وأتباعًا، صِغارا وكِبارا، رِجَالا ونساءً، فالأنصارُ كلُّهم حسنةٌ في ميزانِ مصعبٍ وأرضاه،
وبعدما قضى مَهَمَّتَهُ عاد إلى مكةَ،لِتَنعمَ عيناه بِرسولِ الله ، ويَسْعَدَ بِصُحبَتِهِ، ولِيَكونَ في طليعةِ الْمُهاجِرِينَ حينَ يُأْذَنُ لهم بالهجرة. فما أعظمها من همَّةٍ! فلم تكفه هجرةٌ ولا اثنتان، بل أربعُ هِجْرَاتٍ: ثِنتَانِ للحبَشَةِ وثِنْتَانِ للمدينة.لقد وفَّى أبو عبدِ الله ما عاهد اللهَ عليه ؟! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أقول ما تسمعون،وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ،فاستغفروه إنَّهُ غفورٌ رحيمٌ.

الخطبة الثانية :

الحمد لله الذي هدانا للحقِّ وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له لا ربَّ لنا سواهُ,ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ومصطفاهُ،خيرُ الأنامِ وحاملُ رسالةِ الإسلامِ صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِه العِظامِ، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ على الدَّوام . أمَّا بعدُ : فاتقوا الله عبادَ الله، ثُمَّ تذكَّروا أنَّ اللهَ تعالى اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ حقَّاً لقد فاز مُصعبُ بنُ عُمَيرٍ بِجوار ربِّ العالمين , لأنَّهُ حقَّقَ معنى الولاءِ والبَراءِ صِدقاً وعدلاً، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَعَدَتْ لَهُ أُمُّهُ كُلَّ مَرْصَدٍ، فلم يلتفتْ إليها، وَثَبَتَ على دِينِهِ، وفي غزوةِ بدرٍ الكبرى مَرَّ مُصعَبٌ بأنصاريٍّ قد أَسَرَ أخاه، فقال للأنصاري: شُدَّ يَدَيكَ بِهِ؛ فإنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلَّها تَفدِيه مِنكَ،
أمَّا شجَاعَتُهُ وبسالتُهُ فَتَذَكَّرْ موقفَ الرسولِ حين كان وَسَطَ الجندِ في غَزوةِ أُحُدٍ يَتَفَرَّسُ الوُجُوهَ لِيخْتَارَ مِنْ بَيْنِها مَنْ يَحْمِلُ الرَّايَةَ؟! فَيَدْعُو مُصعبَ الخيرِ والفداءِ، فَيُعطِيَهُ الرايةَ،وتنشبُ المعركةُ الحاميةُ ، ويُخَالِفُ الرُّماةُ وتَنتَشِرُ الفَوضى، ويدركُ مصعبٌ الخطرَ القادِمَ، فَيَرفَعُ اللواءَ عَالِيَاً، ويصرخُ بالتَّكبيرِ ويصولُ ويجولُ يَدٌ تَحمِلُ الرَّايةَ والأخرى تَضْرِبُ بالسَّيفِ.فأقبلَ عدوُّ اللهِ ابنُ قَمِيئَةَ فَضَرَبَ يَدَهُ اليُمنَى فَقَطَعَهَا، ومصعبٌ يقولُ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ فأخذَ اللواءَ باليُسرى وحَنَا عليه، فضربَ يسراه فقطَعَهَا، فَحَنَا مُصعبٌ على الِّلواءِ وضَمَّهُ بِعَضُدَيهِ إلى صدِرِهِ وهو يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ثم حملَ عليه بالرُّمحِ فَأَنْفَذَهُ،وَسَقَطَ الِّلواءُ! وخرَّ على الأرضِ شهيداً، فَظَنَّ النَّاسُ أنَّ رسولَ الله قد قُتِلَ، لأنَّ مُصعباً من أشبَهِ النَّاسِ برسول الله , وجاء الرُّسولُ وأصحابُهُ يَتَفَقَّدُونَ أرضَ المعركةِ , فوقفَ عندَ مُصعبٍ وقال: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً فلمَّا أرادوا تكفينَه لم يجدوا إلا نَمِرَةً قطعةُ جِلدٍ كانوا إذا وضعوها على رأسه خرجَت رجلاه، وإذا وضعوها على رجلَيهِ بدا رأْسُهُ، فقال : ( اجعلوها مما يلي رأسَهُ، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر ) ورقُ شجرٍ ثم ألقى رسولُ الله عليهِ نظرةً وقال: ( لقد رأيتُكَ بِمَكَّةَ وما بها أَرَقُّ حُلَّةً ولا أَحْسَنُ لِمَّةً مِنكَ، ثم ها أنتَ شَعْثَ الرَّأسِ في بُردَةٍ ) ( إنَّ رسولَ اللهِ يشهدُ أنَّكم الشُّهداءُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ)،
لقد قضى مصعبُ الخيرِ نَحبَهُ، وباع الدُّنيا ففازَ بالآخرةِ، وقدَّمَ الرَّخيصَ فَظَفَرَ بالغالي، سَقَطَ جَسَدُهُ وتقطَّعت أوصالُهُ !وَحَلَّقَتْ رُوحُه إلى بارئِها،
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .
هذا وصلُّوا وسلِّموا على رسولِ اللهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، وقال : (من صلَّى علي صلاة واحدة صلَّى الله عليه بها عشرًا).
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ,وارضَ الَّلهمَّ الصحابة أجمعينَ والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهمَّ وفِّقَ كلَّ من حَمَلَ هَمَّ الإسلامِ وسعى لرفع رايةِ الحقِّ والدِّين ,
اللم إنَّا نُشهِدُكَ على حُبِّ نَبِيكَ وجَميعِ الصَّحابةِ والتابعينَ , اللهم ارزقنا الإقتداءَ بهم والسيرَ على نهجهم يا ربَّ العالمين
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ،واجعل بَلَدَنا آمِنَاً مُطمئنا،وسائرَ بلادِ المسلمين اللهم وفق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى وأعنه على البر والتقوى، وأصلح له البطانة وأعنه على أداء الأمانة،
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات.
اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة حَسَنَةً وقِنَا عذابَ النَّارِ
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ


بواسطة : admincp
 0  0  2.0K
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 12:33 مساءً السبت 10 ذو القعدة 1445 / 18 مايو 2024.