اصْبِرُوَا وَصَابِرُوا 11/4/1447هـ الحَمدُ للهِ وَعَدَ الصَّابِرينَ أَجْراً بِغَيرِ حِسَابٍ، أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لهُ الحُكمُ والأمْرُ وإليهِ الْمَآبُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمدَاً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ خَيرُ مَن صَبَرَ وصَابَرَ بِلا تَشَكٍّ وَلا ارْتِيَابٍ، الَّلهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِك عليه وعلى آلِهِ وَأصحَابِهِ وَأتْبَاعِهِ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الْمَآبِ. أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وأَطِيعُوهُ، فَإنَّ طَاعَةَ اللهِ أَقوَمُ وأَقْوى، واستَعِينوا على مَا يَمُرُّ عَليكُمْ بالصَّبر والتَّقوَى، فقد قالَ الْمَولى في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). أَيُّهَا الْمُسْلِمُ: أنتَ مُحتَاجٌ إِلى التَّحَلِّي بِالصَّبرِ في جَوَانِبِ حَيَاتِكَ كُلِّها، فلا فَلاحَ إِلاَّ بِالتَّحَلِّي بِالصَّبرِ الجَمِيلِ، إِذْ هُوَ الوَقُودُ وَالزَّادُ، فَالصبْرُ يَحتَاجُهُ الْمَرِيضُ والْمُبتَلى. وَالدَّاعِيَةُ وَطَالِبُ العِلْمِ، أَمَّا الآمِرُ بالمَعرُوفِ والنَّاهي عن الْمُنكَرِ فَأَعْظَمُ وصِيَّةٍ لَهُ من اللهِ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور)ِ. فَلَولا الصَّبرُ واليَقِينُ بِوَعْدِ اللهِ لِلمُؤمِنِينَ الْمُتَّقِينَ بالنَّصْرِ والتَّمْكِينِ، وَوَعِيدِهِ على الفَاسِقِينَ والْمُفْسِدِينَ بالعَذَابِ والتَّنْكِيلِ، لَغَرِقَ الْمَهمُومُ والغَيُورُ في بُحُورِ هُمُومِهِ، ولكِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا أَعْطَانَا عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ). قَالَ الشَّيخُ السَّعدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ أَعظَمَ العَطَايَا؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أُمُورِ العَبدِ وَكَمَالاتِهِ، كُلُّ حَالَةٍ مِن أَحوَالِهِ تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ، فَإِنَّ الْمُؤمِنَ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتى يَقُومَ بها وَيُؤَدِّيَهَا، وَإِلى صَبرٍ عَن مَعصِيَةِ اللهِ حَتى يَترُكَهَا للهِ، وَإِلى صَبرٍ عَلَى أَقدَارِ اللهِ الْمُؤلِمَةِ فَلا يَتَسَخَّطُهَا، بَل إِلى صَبرٍ عَلَى نِعَمِ اللهِ وَمَحبُوبَاتِ النَّفسِ، فَلا يَدَعُ النَّفسَ تَمرَحُ وَتَفرَحُ الفَرَحَ الْمَذمُومَ، بَل يَشتَغِلُ بِشُكرِ اللهِ، فَهُوَ في كُلِّ أَحوَالِهِ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ وَبِالصَّبرِ يَنَالُ الفَلاحَ" اهـ. عِبَادَ اللهِ: أَمَرَ اللهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوَا وَصَابِرُوا). حَتَّى فِي الخُصُومَاتِ وأَخذِ الحقِّ الذي لكَ، نُدِبْتَ إِلى الصَّبرِ الجَمِيلِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ(. أيُّها الْمُؤمِنُ: أَعظَمُ مِيزَةٍ في الصَّبرِ أَنَّ أَجرَهُ لا يُقَدَّرُ وَلا يُحَدُّ، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ. وَإِذَا وَجَدَ الْمُؤمِنُونُ مَشَقَّةً وَعَنَتَاً مِنَ الصَّبْرِ, أَتَت مَحَبَّةُ اللهِ لِلصَّابِرِينَ لِتُخَفِّفَ عَنهُم وَطأَتَهُ وَتُهَوِّنَ عَلَيهِم صُعُوبَتَهُ: (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ .( عِبَادَ اللهِ: حِينَ يَكبُرُ مَكرُ الأَعدَاءِ وَيَعظُمُ كَيدُهُم وَيَشتَدُّ أَذَاهُم، وَيُمَكَّنُ لَهُمْ فِي الأرْضِ, فَإِنَّ الصَّبرَ وَالتَّقوَى هُمَا خَيرُ عِلاجٍ وَأَنجَعُ وَسِيلَةٍ لإِبطَالِ كَيدِهِم وَإِخمَادِ عَدَاوَتِهِم، قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ .( أيُّها الْمُؤمِنُ: وكَمَا امتَدَحَ اللهُ الصَّبرَ في كِتَابِهِ، فَقَد زَخُرَتَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وسِيرَتُهُ قولاً وَعَمَلاً، كَفَاكَ أَنْ تَسمَعَ قَوْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:(وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ). وَقَولَهُ: (وَاعلَمْ أَنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا). وَقَالَ: (الْمُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم أَعظَمُ أَجرًا مِنَ الْمُؤمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصبِرُ عَلَى أَذَاهُ). هكذا يا مُسلِمُونَ، يَظَلُّ الصَّبرُ سِرَاجًا لَنا في دُرُوبِ الحَيَاةِ، وَنُورًا في ظُلُمَاتِ الفِتَنِ، وَرَفيقًا في غُربَةِ الزَّمَنِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَت الفِتَنُ أوجَها من شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ، وتَسَلُّطٍ من الأَعدَاءِ! فلا عِلاجَ أَنْجَعُ من صَبرٍ جَميلٍ مَعَ إِحسَانٍ في العَمَلِ، قَالَ رَسُولُ الهُدَى صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بما أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم) قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ، أَو مِنهُم؟ قَالَ:( بَلْ مِنكُم) يَقْصِدُ أصْحَابَهُ. صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. أ َلا فَاتَّقُوا اللهَ يا مُسلِمُونَ، وَاصبِرُوا ف :(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ الْمُحسِنِينَ). فَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ. بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعنا بِهدِيِ سَيِّدِ الْمُرسَلِينَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم، فَاستَغفِرُوهُ، إنَّه هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ. الخطبة الثانية/ الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ الحَقُّ الْمُبينُ، وأَشهَدُ أنَّ نَبيَّنا مُحمدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ الصَّادِقُ البَرُّ الأَمِينُ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عليهِ وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ والتَّابعينَ لَهم إلى يومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يَا مُؤمِنُونَ وَأَطِيعُوهُ والتَزِمُوا أمرَهُ وَلا تَعصُوهُ. أَيُّهَا الْمُسلِمُونَ: ذَكَرَ العُلمَاءُ أنَّ الصَّبرَ هو: حَبْسُ النَّفسِ على الطَّاعَةِ وَكَفُّها عن الْمَعصِيَةِ، والدَّوامُ على ذَلِكَ. وقَسَّموا الصَّبرَ، إلى أَقسَامٍ ثَلاثَةٍ: صَبْرٌ على طَاعَةِ اللهِ، وَصَبْرٌ عن مَعصِيَتهِ، وثالِثُها صَبْرٌ على أَقدَارِ اللهِ الْمُؤلِمَةِ. فَمَثَلاً العِبَادَاتُ شَاقَّةٌ على النُّفُوسِ؛ وتَحتاجُ إلى مُصابَرَةٍ ومُجَاهَدَةٍ، قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا). والقِسمُ الثَّانِي: الصَّبرُ عن الوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ تَعالى وَهُوَ آفَةُ هذا الزَّمنِ، إذْ سَهُلَ عَلينَا الوُصُولُ الحرامِ فكانَ أقرَبَ إلى أَحَدِنَا مِن يَدِهِ لِعينِيهِ! فالقَنواتُ والشَّبكاتُ والأجهِزَةُ الذَّكِيَّةُ، إنْ لَمْ نَصبِرْ عن الحرامِ الذي فيها، أوْرَدَتْنَا الْمَهَالِكَ والْمَضَآرَّ. فَالنَّفسَ فإنْ لم نُلجِمهَا بِتَقوى اللهِ والصَّبرِ عن مَعَاصِيهِ، تَلَطَّخنا بِالأَوزَارِ! وَأثْقَلَتْنَا الآثَامُ. وأعظَمُ عِلاجٍ لِذلكَ في قَولِ اللهِ تَعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). فَيَا مُؤمِنُ: ابْتَعِدْ عن أهل الفِسْقِ والْمُجُونِ تَنْجُوا بِنَفْسِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ. فَعَاقِبَةُ الصَّـبرِ الجَمِيلِ جَمِيلةٌ وأَحسَنُ أَخلاقِ الرِّجَالِ التَّحَفُظُ. وأَمَّا القِسمُ الثَّالِثُ: فَهُو صَبرٌ على أَقدَارِ اللهِ الْمُؤلِمَةِ وعلى مَصَائِبِ الحَيَاةِ الْمُتَنَوِّعَةِ، فَمَنْ مِن البَشَرِ سَلِمَ من ذلِكَ؟ ألَمْ يَقُلِ اللهُ سُبْحَانَهُ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). والنَّاسُ عندَ الْمَصَائِبِ قِسمَانِ: قِسمٌ جَازِعٌ سَاخِطٌ مُهلِكٌ نفسَهُ بِالأَسَى وَالحَسْرَةِ، فهذا قد جَمَعَ على نَفسِهِ مُصِيبَتَينِ، فَواتَ الْمَحبُوبِ، وَفَواتَ الأَجرِ العَظِيمِ الذي رَتَّبَهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ! وقِسمٌ راضٍ بقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، فَهؤلاءِ لهم بِشَارَةٌ منَ اللهِ تَعالى القَائِلِ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ولهذا عَجِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من حالِ الْمُؤمِنِ تَعَجُّبَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَبِشَارَةٍ فَقَالَ:(عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحْدٍ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ). عِبَادَ اللهِ: لا يعنِي ذلِكَ أنْ يكونَ الإنسانُ جَمَاداً فاقِداً لِلإحْسَاسِ، كلا فَعَاقِبَةُ الصِّبْرِ الجَمِيلِ هُو التَّفْكِيرُ السَّليمُ والفِعْلُ الجَمَيلُ. فالصَّبْرَ الجَمَيلُ: حَبْسٌ للنَّفْسِ عن أَيِّ خَلَلٍ أو خَطَرِ، وَزِيَادَةٌ بِالتَّحَرُّكَ لِهذَا الدِّينِ العَظِيمِ، وَحُسْنِ العَمَلِ. فاللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ، آمنَّا باللهِ وتَوكَّلنا عليه. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. اللهمَّ اشفِ مَرضَانَا، وعَافِ مُبتَلانا، وارحم مَوتانا، واهدِ ضَالَّنا، ورُدَّ غَائِبَنا، وارزقنا حُسنَ القولِ والعَمَلِ، اللهم اجعلنا مُقيمي الصَّلاةِ ومن ذُرِّياتِنَا رَبَّنا وَتَقَبَّل دُعاءَ، اللهمَّ ثَبِّتنا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويَومَ يقومُ الأشهادُ. اللهم آمنَّا في أوطانِنِا، ووفِّق أَئِمَّتَنا وولاةَ أمورِنَا، وَاجْزِهِمْ خَيرًا على خِدمَةِ الإسْلامِ وَالْمُسلمينَ! اللهمَّ انصر جنودنا واحفظ حُدُدَنا وأَصلِح حَالَنا وأَحسِن مآلنا، يا ربَّ العالْمينَ. عباد الله: اذكروا اللهَ العظيمَ يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.